مسجد الحسن الثاني.. تحفة الدار البيضاء وفخر المعمار المغربي

07 ديسمبر 2020

بمئذنة شامخة تتراءى للناظر حيثما ولى وجهه، يقف مسجد الحسن الثاني شامخا على شاطئ مدينة الدار البيضاء، وسط أمواج المحيط الأطلسي المتلاطمة، مشكلا لوحة معمارية وفنية وتقنية فريدة.

المسجد الذي قد لا يكون الأكبر في العالم، لكن حرفية بنائه وطابعه المغربي الأصيل، وثبات أساساته فوق مياه المحيط، جعل منه أحد أشهر المعالم المعمارية في العالم الإسلامي، ورمزا دينيا للمغرب، وعلامة بارزة  للدار البيضاء، ارتبطت به المدينة بشكل وثيق، حيث أصبحت لا تذكر إلا ويذكر معها المسجد.

*** بداية الفكرة

عقب أول زيارة له للمدينة بعد توليه العرش سنة 1961، تعهد الملك الراحل الحسن الثاني، أن يهب الدار البيضاء ذات المكانة والموقع المتميز، مسجدا كبيرا يعكس أهمية المدينة ويشكل رمزا لها، ويكون تحفة معمارية عربية إسلامية فريدة تهوي إليه الأفئدة.

"وكان عرشه على الماء" آية كريمة جعلها الحسن الثاني شعارا لهذا المسجد، قبل أن يضع سنة 1986 الحجر الأساسي لبنائه على أمواج شاطئ المدينة.

بناء تكاتف عليه المغاربة قاطبة على مدار سبع سنوات بالمال والجهد، بعدما اختيار الملك الراحل أن يكون تمويل بناء المسجد بالتضامن بين المغاربة جميعهم، وذلك في خطاب له سنة 1988 بمناسبة عيد الشباب، قال فيه "كان في الإمكان أن يبني هذا المسجد، وترصد له ميزانيته، ويتم التخطيط له على سنين وسنين، ولكنني شعبي العزيز، قرأت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة": ومن هنا أتتني الفكرة أن يبني مسجد الدار البيضاء باكتتاب من جميع المغاربة حتى يكون لهم فيه الفضل ولو بدرهم واحد".

وهي الدعوة التي وجدت إقبالا كثيفا ومشاركة منقطعة النظير في الاكتتاب لبناء المسجد، إضافة إلى ما أظهرته المشاركات الصغيرة والطوعية من انخراط كبير للمغاربة في هذا المشروع. فكان تدشينه سنة 1993، ليلة ذكرى المولد النبوي من طرف أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، وبحضور عدد من قادة البلدان الإسلامية، وشخصيات مرموقة من العالم الإسلامي.

سبع سنوات من البناء والعمل المتواصل، شهد خلالها سكان الدار البيضاء وزوارها مئذنة المسجد ترتفع في السماء رويدا رويدا، قبل أن يظهر لهم المسجد بشكله الخارجي الجذاب، أما داخله فقد زينته أجود ما جادت به الفنون والحرف التقليدية المغربية على مر العصور، لتشكل بذلك صورة بديعة قل نظيرها.

إنجاز عظيم وتحفة فنية غير مسبوقة، لم يكن الملك الراحل يخفي فخره بها، وهو يزور رفقة العديد من رؤساء الدول ورش بناء المسجد حتى قبل الانتهاء منه، حيث يعد هذا المسجد ثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرم المكي الشريف والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، من حيث المساحة، وحجم الأبنية، وسعة الاستيعاب، كما يعد معلمة معمارية فريدة من نوعها، حيث تمازج الفن التقليدي في انسجام رائع مع أحدث التقنيات.

*** تفاصيل ضخمة

لم يكن بناء مسجد كمسجد الحسن الثاني بموقعه وضخامته أمرا هينا، وهو ما احتاج إمكانيات ضخمة، ومتطلبات بناء غير تقليديه، فبناء مسجد على مياه المحيط، كان من الضروري معه أن تراعى جميع الشروط التقنية والفنية التي تكفل متانة البناء وثباته فوق الأمواج.

أهداف استدعت ما يناهز 26000 متر مكعب من الخرسانة، و60000 متر مكعب من الصخور والكتل الخرسانية التي تتم تكديسها لتكون بمثابة أساسات لحماية البناء المغمور في ماء المحيط.

أطنان من الصخور والخرسانة لا زال منظرها عالقا في ذاكرة سكان الدار البيضاء الذين طالما تقاطعت خطواتهم في أهم شوارع المدينة مع الشاحنات الضخمة المحملة بها وهي في طريقها إلى مواقع بناء المسجد.

ولم تكن تفاصيل البناء من الداخل بأقل إبداع من شكل المسجد الخارجي، إذ احتاجت زخرفة المسجد قرابة 10000 متر مربع من الزليج، و53000 متر مربع من الخشب المزخرف، و67000 متر مربع من الجبص، كلها أبدعتها أيادي أمهر "المعلمين" و"الصنايعية"، الذين عملوا كخلايا نحل، تحت إشراف مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني، الذي وافق لاحقا على إطلاق اسمه على هذه المعلمة الدينية والحضارية الكبرى.

إمكانيات ضخمة وجهود كبرى وعمل بالليل والنهار كانت كفيلة بإخراج مسجد الحسن الثاني بأبهى حلة، وأجمل صورة، ليشكل بمئذنته ذات الـ 200 أمتار وشعاع الليزر الموجه منها صوب مكة المكرمة بحوالي 30 كلم، وسقفه الخشبي المتحرك الذي تبلغ مساحته 3400 مترا مربعا، ويزن 1100 طن، وجناح الوضوء التي تبلغ مساحته 4800 متر مربع، وباتساع وسط المسجد لأكثر من 25000 من المصلين، وبباحته الخارجية التي تتسع لأكثر من 80000 ألف مصل،  رمزا للدار البيضاء ومنارة جاذبة لكل زائر للمدينة.

*** مرافق المسجد

إلى جانب دوره الديني والروحي الهائل والذي أنشئ من أجله، فقد رأى القائمون على بناء هذه المعلمة أن تلعب أدوار ثقافية وعلمية موازية، فعلى الجانب المقابل من باحة المسجد أنشأت مكتبة وسائطية، هي الأكبر من نوعها في العاصمة الاقتصادية للمملكة، حيث تبلغ مساحتها 12400 مترا مربعا، وتضم ما يقرب من 125000 وثيقة متعددة اللغات ومتعددة الوسائط، مصنفة على عدة مستويات، وتتوجه لمختلف الأعمار والمستويات المعرفية والثقافية.

في هذا الفضاء يمكنك العثور على جميع مجالات النشاط البشري، من العلوم الدقيقة إلى العلوم الإنسانية، مرورا بالقصص المصورة للأطفال، وتلك المخصصة للطلبة والمهنيين.

هذه المكتبة يقوم عليها موظفون ومستخدمون مهنيون وفي خدمة زوار ومرتفقي هذا الفضاء الثقافي المتميز، تميز المعلمة التي تنسب إليها.

*** التدبير والصيانة

تم تدشين مسجد الحسن الثاني سنة 1993، ومنذ ذلك الحين عهد بتسييره والمحافظة عليه وصيانته للوكالة الحضرية للدار البيضاء إلى حدود سنة 2010. ومع مرور الوقت وتعدد المرافق والأنشطة المرتبطة بهذا الصرح العظيم، تبينت الحاجة لإعادة النظر في نموذج تدبير إدارته اليومية. ومن تم

تقرر إحداث مؤسسة تجسد هذا النموذج وتوفر كافة الضمانات اللازمة لاستمرارية وتنمية هذا الصرح العظيم وجميع مرافقه.

وبذلك خلق مؤسسة غير ربحية تتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلالية المالية سنة 2009 تحت الرئاسة الشرفية لصاحب الجلالة أطلق عليها اسم " مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء" والتي تعنى بالتدبير وصيانة المسجد وكافة المرافق المرتبطة به بالإضافة إلى وضع وتنزيل برنامج ثقافي مندمج.